قصة مرافعة صبراتة
أغرم بالعلوم والمعارف، فبدد ثروات عائلته الثرية في تنقلاته وتجواله تلميذاً وأستاذاً وخطيباً من موطنه مدوراً حتى أثينا مرورا بقرطاج وطرابلس، جال لوسيوس أبوليوس في العالم وسار في آفاقه صانعاً لنفسه مجداً أدبياً وعلمياً، وتاركاً لمن خلفه قصة مثيرة للإعجاب عن رجل سار خلف المعرفة فرفعت قدره وخلدت اسمه، بقيت مغامراته وخطبه كما كتبه محفوظة ليومنا هذا، من اشهرها وأهمها “مرافعة صبراتة” الشهيرة، جيء به متهما إلى المحكمة، فأبهر الجميع بفصاحة وبلاغة وقوة حجة وتبحر في الفلسفة والعلوم، تحولت “مرافعة صبراتة” من جلسة محاكمة إلى كتاب لازال يطبع إلى يومنا هذا كأحد أقدم كتب الأدب العالمي.
يقول المؤرخ والكاتب الأمريكي “ويل ديورانت” مؤلف الموسوعة الشهيرة “قصة الحضارة” :-
“ولكن الأدب الأفريقي لم تكن له الزعامة على آداب العالم إلا أيام مجده في عهد المسيحية. وكان لوسيوس أبوليوس شخصية غريبة جديرة بالتصوير، أكثر من غيره. وكان مولده في مدورا Madaura من أسرة عريقة النسب (124م)، وقد درس فيها وفي قرطاجنة وأثينا، وبدد ثروة كبيرة ورثها عن أسرته، وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ومن دين إلى دين، وانضم إلى الجماعات ذات الطقوس الدينية الخفية ومارس السحر وألف كتباً كثيرةً في موضوعات تختلف من اللاهوت إلى مسحوق الأسنان، وألقى محاضرات في الفلسفة والدين في روما وغيرها من المُدن.
العودة
ثم عاد إلى أفريقيا وتزوج في طرابلس من سيدة تكبره وتفوقه في الثراء. فلما فعل هذا رفع أصدقائها وورثتها المنتظرون الأمر إلى القضاء مطالبين بإلغاء الزواج، واتهموه بأنه حصل على موافقة السيدة عليه بفنون السحر؛ ودافع الرجل عن نفسه أمام المحكمة بخطبة وصلت إلينا بعد أن أدخل عليها بعد أيامه كثيراً من الصقل والتنميق، وكانت نتيجتها أن كسب القضية والزوجة، ولكن الناس أصروا على الاعتقاد بأنه ساحر؛ وقضى الرجل بقية حياته يمارس صناعتي المحاماة والطب، وكتابة الرسائل والخطب، ولكن معظم ما كتب كان في الموضوعات العلمية والطبيعية؛ وقد أقامت له مدينته نصباً تذكارياً نقشت عليه باللاتينية العبارة الآتية: الفيلسوف الأفلاطوني، ولو أنه استطاع العودة إلى الحياة لساءه ألا يذكره الناس إلا بكتابه الحمار الذهبي.” أهـ
الزواج
وزوجته هذه كانت تسمى (إميليا بودنتيلا Emelia Pudentilla) وهي أرملة ثرية من أويا “طرابلس” كانت ترفض الزواج لفترة طويلة من الزمن، لكن عندما طلبها لوسيوس وافقت على الزواج منه، وبدا زواجهما سعيداً أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن تعكر نتيجة المؤامرات التي بدأ أقارب إميليا يدبرونها لأن مطامعهم في ثروتها قد خابت بسبب هذا الزواج.
ولذلك فقد شنوا حملة تشهير ضد أبوليوس انتهت باتهامه رسمياً بأنه إنما حمل إميليا على الموافقة على الزواج منه بوساطة السحر، وبموجب تلك التهمة قدم أبوليس للمحاكمة في صبراته حيث وقف يدافع عن نفسه أمام رئيس المحكمة (كلوديوس مكسيموس Claudius Maximus) والخطبة التي ألقاها أبوليس في محكمة صبراته في هذه المناسبة، تجلى ذكاؤه وبلاغته بشكل أدهش مستمعيه ومكنه من الفوز بالبراءة.
المرافعة
من هناك في صبراتة أصبحت تلك المحاكمة واحدة من أشهر المحاكمات في التاريخ القديم، وكتبت في كتب وانتشرت وبقيت ليومنا هذا متداولة، رد فيها على تهم متنوعة مفصلة، اتهمه خصومه فيها بالتحايل للحصول على مالها كونه فقيراً، واستعمال السحر وشبهات فيما يتعلق بصنع بعض الموادـ واستعماله للأسماك، وبعض الأدوات .. رد عليها كلها بصيغة بليغة، وحجج قوية متناسقة، من بين كلامه في مرافعة صبراتة قوله :-
” أمّا الفصاحة، فإن لي فيها حظّا، فلا ينبغي أن يُعدّ ذلك أمراً غريباً ولا مكروهاً، إذ عكفت منذ فجر العمر على دراسة الأدب على أبرز رجاله، مزدريا في سبيل ذلك كلّ ملاذّ الحياة الأخرى. ثمّ إنّه عاب عليّ كذلك الفقر، وهي تهمة أقبلها مسروراً بل وأحبّ إعلانها أمام الملإ، أقول إنّ الفقر كان عبر القرون الماضية مؤسّس كلّ المدائن ومبتكر كلّ الفنون، خِلوا من أيّ عيب وافيا لحظّ من كلّ مجد، محلّ ثناء وإجلال لدى كلّ الأمم. الفقر هذا عينه هو الذي كان عند اليونان استقامة في أرستيدس وحلما في فوكيون وبأسا في إيبامِننْداس وحكمة في سقراط وفصاحة في هوميروس وهو الذي وضع الأسس لسلطان الشّعب الرّومانيّ، واعترافاً بفضله مازال يقدّم حتّى اليوم القرابين للآلهة الخالدين في قدح وجفنة من الفخّار. “
وفي نهاية المرافعة لخص بإيجاز وبلاغة كامل التهم ورده عليها في كلمتين لكل تهمة قائلاً :-
“فماذا يأتي تُرى بعد ذلك؟ هات إذن واحدة من تلك الجرائم العديدة، هات واحدة ظنّيّة أو غامضة تماما من تلك الجرائم البيّنة! هأنذا أردّ على كلّ واحدة من تهمهم بكلمتين لا أكثر فعُدّ:
“تلمّع أسنانك!”- اغفر نظافتي.
“تتأمّل المرآة!”– واجب الفيلسوف.
“تنظم شعرا!”– عمل مباح.
“تدرس الأسماك!”– يعلّمني أرسطوطاليس.
“تقدّس خشبة!”– يوصيني به أفلاطون.
“تزوّجتَ امرأة!”– تفتضيني القوانين.
“تكبرك سنّا!”– يحصل كثيرا.
“تنشُد المال!”– خذ الصّداق، تذكّر الهبة، اقرأ الوصيّة.
إن رددتُ كلّ تهمهم باستفاضة، إن دحضتُ كلّ الافتراءات، إن برّأت نفسي لا فقط من كلّالتّهم، بل وكذلك من كلّ ما يشاع عنّي نمّا واغتياباً، إن لم أُنقص أبدا شرف الفلسفة الذي هو عندي أفضل من سلامتي، بل صنته بحرص أينما كنتُ، ماسكا إيّاه بسبع ريشات كما يقال، إن كان ذلك كما أقول فبوسعي أن أنتظر مطمئنّاً حكمك بإجلال وبلا وجل من سلطتك فلأن يدينني والٍ أهون في اعتقادي وأقلّ رهبة من أن يستهجنني رجل بمثل فضلك واستقامتك .. والسّلام”.
وعن تاريخ وقوع مرافعة صبراتة وأهميتها يقول الأستاذ “عمار الجلاصي” أحد من ترجموا الكتاب :-
“لا توجد قرائن تاريخيّة خارجيّة على وقوع هذه المحاكمة التي ربّما تمّت في سنة 158/159 م كما يُستنتج من بعض القرائن، وللنّصّ بجانب أهمّيّته الأدبيّة وما يتضمّن من معلومات حول سيرة حياة أبوليوس وشخصيّته، قيمة تاريخيّة هامّة فهو يفيد في مجالات كدراسة الأسرة والقانون والسّحر والأديان في العالم الرّومانيّ”.
نشرت المقالة في العدد الثالث من المجلة ويمكن تحميل العدد بالكامل من هنا
682 - 682Shares
تعليقات فيسبوك