” شَهِدَ عامُ 1881 مَوْلِدَ الشخصيَّةِ صاحبةِ الدور الرئيسي في تأسيس تركيا الحديثة، وذلك في مدينة سالونيك التابعة للإمبراطورية العثمانية وقتئذٍ (التي تُعرَف الآن باسم ثيسالونكي، وهي جزء من اليونان) لأسرة تركية مسلمة متواضعة. كان أبوه موظفًا بسيطًا في الجمارك، وقد أطلق أحد المدرسين على ابنه اسم كمال؛ وهو الاسم الذي احتفظ به طوال حياته. أصبح كمال ضابطًا في الجيش، وكان سِجِلُّه أثناء الحرب العالمية الأولى سببًا في تحوله لبطل قومي. ومن أبزر ما تضمَّنَهُ هذا السِّجِلُّ: صد محاولة الحلفاء اقتحام مضيق الدردنيل في معركة جاليبولي. كانت السلطنة العثمانية — التي ساندت الجانب الخاسر في الحرب — خائرةَ القوى في ذلك الحين، واحتلَّت القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية إسطنبول، بينما غزا اليونانيون الأناضول. وقد كان مصطفى كمال أكثر قادة المقاومة التركية تأثيرًا، وتمكَّن مع مُؤيِّديه من تأسيس حكومة وعاصمة تركية جديدة في أنقرة عام 1920، حيث انضم إليه العديد من الشخصيات التركية البارزة، وتحت قيادته اجتمع البرلمان وأُعْلِنَ إلغاء السلطنة العثمانية. ثم طُرِدَت القوات اليونانية من البلاد، وتأسست الجمهورية التركية رسميًّا عام 1923 برئاسة مصطفى كمال “
هكذا يحاول الكاتب “ريتشارد كافنديش” تلخيص حياة مصطفى كمال أتاتورك في أسطر قليلة, لكن حياة هذا الأخير من الصعب تلخيصها, فالرجل الذي صار رمزا ومؤسسا لتركيا الحديثة كتبت عن حياته عديد الكتب والمقالات والدراسات, فقد كانت حياة الرجل عامرة بالأحداث الفاصلة في التاريخ , مزدحمة بالمغامرات والحروب والسياسة والأفكار, محطات كثيرة مر بها مصطفى كمال قبل أن يصبح “أتاتورك” أي أب الأتراك, و ” ليبيا ” كانت واحدة من بين هذه المحطات التي أثرت في تاريخ مصطفى كمال .
في سبتمبر سنة 1911 أعلنت إيطاليا بداية حملتها لاحتلال ليبيا, التي كانت آن ذاك تخضع لسلطة الدولة العثمانية التي أخذ الضعف يدب في جسدها, وبدت وكأنها تغرق في بحر من الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية وتفقد كثيرا من أراضيها, وبعد إعلان الحرب توجه مصطفى كمال وكان يخدم في الجيش العثماني آن ذاك رفقة مجموعة من زملائه إلى ليبيا, لم تكن طريقهم سهلة, فقد عبروا الأناضول إلى الشام ثم مصر, وهناك كانت انجلترا تشدد على حراسة الحدود الغربية ومنع التسلل, مما اضطر مصطفى كمال ورفاقه للتأخر قليلا إلى حين تمكنوا بمساعدة بعض المصريين من عبور الحدود , ووطئت جيادهم أرض ليبيا للمرة الأولى, الضابط الصغير في الجيش العثماني يخترق صحراء وجبال وأودية برقة, متوجها للحرب مع زملائه .
مصطفى كمال مع مجموعة من ضباط الجيش العثماني والمجاهدين الليبيين سنة 1911 م إثر وصولهم إلى برقة
بعد فترة وجيزة من وصوله حيث كانت الحرب قد اندلعت, والسفن الإيطالية بدأت بالقصف والإنزالات على شواطئ ليبيا من طرابلس إلى بنغازي, توجه إلى “أنور باشا” القائد العثماني البارز الذي كان قد سبق مصطفى كمال في الوصول, وبدأ تنظيم صفوف المجاهدين الليبيين هناك وتجهيزهم للقتال, في منطقة بو منصور في مدينة درنة كان لقاء مصطفى كمال بزميله الذي لطالما كان مختلفا معه في كثير من الأمور, لكن يتمتع كلاهما بقدرات قيادية بارزة واحترام متبادل, لذلك رحب به أنور باشا وعينه على الفور بجانبه قائدا لإحدى الفرق العسكرية المرابطة على سواحل مدينة درنة .
أنور باشا ومصطفى كمال ومن خلفهما مجموعة من المجاهدين الليبيين, رسم تم تعديله عن صورة مطابقة التقطت سنة 1912 م
بعد استلامه لقيادة إحدى فرق المجاهدين, بدأ مصطفى كمال العمل الميداني الذي تعود عليه واكتسب فيه خبرة طويلة عبر انخراطه في الجيش العثماني وخوضه عدة حروب سابقة قبل دخوله الحرب ضد إيطاليا على الأراضي الليبية, خاضت فرقته عدة معارك في درنة وضواحيها, وتلقى هو إصابة خطيرة لكنه نجى وشفي منها, كما كان يشرف مع أنور باشا على إعداد وتدريب المقاتلين الجدد وتأمين خطوط الإمداد الضعيفة للمجاهدين الذين نجحوا في صد الأسطول الإيطالي مدة طويلة وظل غير قادر على التوغل في الشواطئ, رغم الفارق الشاسع في الامكانيات القتالية, عددا وعدة وكفاءة .
مصطفى كمال وحوله مجموعة من الضباط والمجاهدين في أحد المعسكرات 1912
في أكتوبر سنة 1912 اندلعت الثورة ضد العثمانيين في البلقان، ووقعت معاهدة أوشي التي تنص على انسحاب العثمانيين من ليبيا، وازداد موقف الدولة العثمانية ضعفا وأصبح الخطر هذه المرة قريبا من عاصمتها, وساءت الأحوال في البلقان مما اضطر قيادة الجيش العثمانية لاستدعاء كل من أنور باشا ومصطفى كمال على وجه السرعة, والذين عبرا وغادر كلاهما الأراضي الليبية للمرة الأخيرة, لتطوى صفحة من صفحات تاريخ مصطفى كمال الذي كان عمله في ليبيا أحد أسباب خبرته العسكرية وترقيته في الجيش العثماني, وكان خروجه من ليبيا وعودته لبلاده في تلك الأحوال المضطربة بداية للمرحلة الأهم في حياته حيث سيبرز قائدا وزعيما لبلاده التي ستصبح لاحقا “تركيا” وسيصبح هو “أتاتورك” وستشهد أحداثا فاصلة وتغييرا جذريا قلب موازين المنطقة برمتها, ولايزال موضوعا للجدل والدراسة حتى يومنا هذا .
وكما الأثر العسكري والقيادي , فقد تركت المرحلة التي قضاها أتاتورك في ليبيا أثرا في ثقافيا ومعرفيا شخصيا بعيدا عن الجوانب العملية , فكان يلبس الزي التقليدي الليبي بإتقان, ويعرف القبائل والعائلات في مناطق درنة والجبل الأخضر وكان أحيانا مع أنور باشا يعملان على حل بعض الاشكالات الاجتماعية التي تحدث هناك, تلك كانت لمحة بسيطة مختصرة, عن محطة قصيرة في حياة أتاتورك الحافلة بالأحداث .
أتاتورك بالزي التقليدي الليبي
2 - 2Shares
تعليقات فيسبوك