مقالات

ليوبولد فايس .. ولقاء عمر المختار

Leopold_Vais


“كان رجلاً معتدل القامة قوى البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذي الخطوط العميقة، وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف أنهما كانتا ضاحكتين براقتين في غير هذه الظروف، إلا أنه لم يكن فيهما الآن شيء غير الظلمة و الألم و الشجاعة”

فايس واصفاً عمر المختار، اقتباساً من كتابه “الطريق إلى مكة”

 

ليوبولد فايس (محمد أسد)

ليوبولد فايس الصحفي والمفكر النمساوي الذي ولد في إحدى مدن أوكرانيا التي كانت حين مولده في سنة 1900 تتبع الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، كان يدين باليهودية قبل أن يعتنق الإسلام في سنة 1926م ويصبح اسمه محمد أسد، وأحد من الشخصيات المثيرة للاهتمام لسعة تجاربه في الصحافة والسياسية وكثرة ترحاله من النمسا إلى القدس ومن الشام إلى باكستان ومن ليبيا إلى الجزيرة العربية وإلى بلدان شتى في أقطار العالم، وتعتبر مذكراته المسماة “الطريق إلى مكة” الى جانب كونه سيرة ذاتية له، سجلاً تاريخياً مهما لعدة شخصيات وأحداث عاصرها ودون تجربته عنها، ربما هو من الصحفيين القلائل الذين قابلوا عمر المختار أو سيدي عمر كما يلقبه فايس، ذلك اللقاء حدث في الأيام الأخيرة لعمر المختار حين كان مطاردا لا يقاتل إلى جانبه سوى أفراد قليلين ويرى بنفسه النهاية رأي العين، تم اللقاء بتوجيه من أحمد السنوسي الذي قابله في المدينة وتحدث معه قبل أن يطلب منه الذهاب في مهمة لإيصال رسالة إلى عمر المختار .. يقول فايس:-

الرحلة نحو ليبيا

ولمعرفة سيد أحمد بمشاعري تجاه القضية السنوسية نظر إلى عيني وقال:

هل تذهب إلى طبرق باسمنا وتتعرف بنفسك على ما يجب عمله، ربما بإمكانك هناك أن ترى الأشياء بطريقة أوضح نظرت إليه وهززت رأسي بالموافقة، دون كلمة .. بالرغم من يقيني بثقته به إلا أن طلبه مني جعلني أحبس أنفاسي، كان الإقدام على مغامرة بهذه الجسامة يجعلني لا أجد الكلمات المناسبة، مد سيد أحمد يده إلى رف فوق رأسه وتناول مصحفا ملفوفا في قماش حريري ووضع كتاب الله على ركبتيه وتناول كفي الأيمن وقال:

(فلتقسم بالله الذي يعلم ما تخفي الصدور أنك ستظل مخلصاً أقسمت .. ولم أكن على يقين بقسم أقسمته في حياتي مثلما كنت على يقين من التزامي المطلق بهذا القسم)

بهذه الطريقة بدأت رحلة فايس نحو ليبيا للقاء عمر المختار .. كثير من المصاعب في الطريق وسرية تامة تطلبتها المهمة التي انطلق فيها بحماس نابع من إيمانه بالحركة السنوسية آن ذاك، يقول هو عن رحلته أنها كانت أصعب رحلة صحراء في حياته، لكنها تكللت بالنجاح الشخصي له، وخيبته من فشل خطط السنوسي التي كانت تعتمد على بقاء الكفرة في يد رجالهم، لكن عند وصوله ولقاءه لعمر المختار كانت الكفرة قد سقطت بالفعل في أيدي الإيطاليين.

اللقاء مع عمر المختار

يقول فايس: (وبعد أربع ليال أخرى وصلنا إلى وادي الثعابين حيث كان علينا أن نجتمع بعمر المختار، وبعد أن اختبأنا في وادي صغير تكتنفه الأشجار الكثيفة وعقلنا خيولنا تحت بعض الصخور جلسنا ننتظر مجي أسد الجبل الأخضر وكان الليل قارسا شديد الظلمة يخيم عليه صمت عميق، وبعد انتظار بضع ساعات، سمعنا حفيف أغصان بين الأشجار واصطدام نعل خفيف بحجر، وانتصف رفيقي واقفا وأمسك بندقيته بيديه وحدق بالظلام، وخرجت من الأجمة صيحة أشبه بعويل أبن أوى، فما كان من عبد الرحمن إلا أن كور يده أمام فمه و أجاب بصوت مماثل، وعندئذ ظهر أمامنا شخصان مسلحان بالبنادق وعندما اقتربا منا قال أحدهما في سبيل ألله وأجاب عبد الرحمن (لا حول ولا قوة إلا بالله) فعرفت أنها كلمات السر التي يستعملها المجاهدون وقفنا منصتين وبعد عشر دقائق سمعنا حفيف الأغصان مرة ثانية وبرز ثلاثة رجال، كل منهم من جهة وأخذوا يقتربون منا وبنادقهم مصوبة إلينا، وبعد أن اقتنعوا بأننا كنا فعلا من كانوا يتوقعون رؤيتهم، عادوا واختفوا ثانية في الأجمة وفي جهات مختلفة أيضا.

لقد كان واضحاً أنهم كانوا ينوون حراسة زعيمهم والإشراف على سلامته، وما لبث عمر المختار أن جاء على جواد صغير لفت حوافره بالقماش، وكان يحيط به رجلان من كل جانب و يتبعه كذلك عددا أخر، وعندما وصل إلى الصخور التي كنا ننتظر عندها ساعده أحد رجاله على النزول ورأيت أنه كان يمشى بصعوبة عرفت بعد ذلك أنه قد جرح إبان إحدى المناوشات قبل ذلك بعشرة أيام تقريباً.

وعلى ضوء القمر المشرق استطعت الآن أن أراه بوضوح، كان رجلاً معتدل القامة قوى البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذي الخطوط العميقة، وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف أنهما كانتا ضاحكتين براقتين في غير هذه الظروف، إلا أنه لم يكن فيهما الآن شيء غير الظلمة والألم والشجاعة، واقتربت منه لأحييه وشعرت بالقوة التي ضغطت بها يده على يدي.

مرحباً بك، يا ابني، قال ذلك وأخذ يجيل عينيه في متفحصاً. لقد كانت عينا رجل صار الخطر قوته اليومي، وفرش أحد رجاله بطانية على الأرض، وانحنى عبد الرحمن ليقبل يده، ثم شرع بعد استئذانه يوقد نارا خفيفة تحت الصخرة التي كنا مجتمعين بها، وعلى ضوء النار الخافت قرأ سيدي عمر الكتاب الذي حملنيه السيد أحمد السنوسي إليه ثم التفت إلى وقال: لقد أطراك السيد أحمد في كتابه، أنت على استعداد لمساعدتنا ولكنني لا أعلم من أين تأتينا النجدة، إلا من الله العلى الكريم، إننا حقا على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا.

الكفرة

فقلت: أذا أمكن تدبير الحصول على المؤن و الذخائر من الكفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الايطاليين؟

لم أرى في حياتي ابتسامة تدل على هذا القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التي رافقت جواب سيدي عمر عندما أجاب: لقد خسرنا الكفرة والايطاليون احتلوها منذ أسبوعين تقريباً.

كان وقع الخبر صادماً على فايس، فقد حمل رسالته وتحمل عناء الرحلة من أجل ايصال خطط واقتراحات المساعدة من السنوسي والتي كانت الكفرة أهم نقاطها، سأل عمر المختار عن سبب سقوط الكفرة، لكن عمر المختار أشار إلى أحد رجاله الناجين من الكفرة وطلب منه أن يجيب عن السؤال.

ويروي فايس قائلا : (جلس الرجل متربعاً أمامي، وجذب برنسه البالي حول بدنه .. وتكلم بهدوء ودونما انفعال.. إلا أن وجهه النحيل كان ينقل كل مشاهد الرعب والأهوال التي شاهدها، قال: جاء الايطاليون الى الكفرة إلينا بثلاث أرتال من المدرعات والمدفعة الثقيلة ومن ثلاث جهات مختلفة مجهزين بسيارات عسكرية مصفحة، ومن الجو كانت طائراتهم تقصف البيوت والمساجد وبساتين النخيل وهي تحلق على ارتفاع منخفض، لم يكن بالواحة إلا بضع مئات من الرجال القادرين على حمل السلاح، أما البقية فشيوخ ونساء وأطفال.. دافعنا من بيت إلى بيت.. لكنهم كانوا يفوقوننا كثيرا .. وفي النهاية لم يبق تحت سيطرتنا سوى قرية الهواري.. لم تفلح بنادقنا البسيطة في التصدي لسياراتهم المصفحة، ولم ينج منا سوى القليل ممن هربوا، اختبأت في أحد بساتين النخيل.. منتظراً فرصة الهرب .. وكنت طوال الليل اسمع صراخ النساء اللاتي يغتصبهن الجنود، وفي اليوم التالي جاءت إلى مخبأي امرأة عجوز.. وأعطتني قليلا من الخبز والماء، وأخبرتني أنهم جمعوا من بقي حياً من المقاتلين وأعدموهم ومزقوا المصحف أمامهم ….)

وأخذ الرجل يسرد مأساة سقوط الكفرة ورحلته للخروج منها بطريقة يائسة، ويكمل فايس: حين انتهى الرجل من حكايته المرعبة، أدناني عمر منه بلطف وقال “هكذا يا بني، لقد اقتربنا كما ترى من نهاية أجلنا”.

وكإجابة عن تساؤل بداً في عيني دون أن أقوله، قال: “إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت ونحن ليس أمامنا خيار غير ذلك، إن لله وإن إليه راجعون، لقد أرسلنا نساءنا و أولادنا إلى مصر كي نطمئن على سلامتهم متى شاء لنا الله أن نموت”.

همٌ ثقيل

كان في صوت عمر المختار هم ثقيل، ولكن بلا قنوط، وهو يشرح لي المسار الطويل الذي لابد من سلوكه من أجل الحرية، كان يدرك أنه لم يبق أمامه إلا الموت، إلا أن ذلك لم يحمل له أي جزع أو خوف، لم يكن بالطبع يسعى إليه ولكنه أيضا لم يحاول أن يتفاداه.

كنت على يقين أنه حتى لو عرف نوع الموت الذي ينتظره لم يكن أيضا سيحاول أن يتفاداه أو يتجنبه، كان يبدو واعيا بكل خلجات نفسه أن كل إنسان يحمل مصيره داخله أينما حل وكيفما فعل.

بعد ذلك انتقل فايس صحبة عمر المختار إلى أحد معسكراتهم القريبة وهناك يقول: (لدهشتي وجدت امرأتين بالمعسكر، واحدة مسنة والأخرى شابة كانتا جالستين بالقرب من نار صغيرة تصلحان سرجا مقطوعا بمخرز كبير).

قال سيدي عمر وهو يرى دهشتي الصامتة “الأختان تذهبان معنا حيثما ذهبنا رفضتا الحياة في أمان مع النساء والأطفال الذين رحلوا، إنهما أم وابنتها كل رجال عائلتهما ماتوا في النضال”.

المغادرة

بعد مغادرة فايس بأسابيع قليلة تم القبض على الشيخ المجاهد عمر المختار واعدامه يوم 16 سبتمبر 1931 أما الشاب آن ذاك ليوبولد فايس فغادر عائلا إلى المدينة وعاش بعد ذلك طويلا في رحلة صحفية وسياسية وفكرية وألف عديد الكتب، إلى أن توفي في اسبانيا يوم 20 فبراير 1992 تاركا خلفه الكثير من المذكرات والتاريخ والتجارب والجدل .. كانت هذه المقالة البسيطة واحدة من تجاربه.

شارك
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  • 20
  •  
    20
    Shares

تعليقات فيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *