مقالات

القطّان المتقاتلان

من منشورات فريق المتحف البريطاني ضمن “مشروع توثيق الفن الصخري في افريقيا” –

ترجمة : أنس محمد أبو ميس

بامتدادها من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، فإنّ الصحراء الكبرى هي الأكبر في العالم دون منازع. تغطي أكثر من 3,500,000 ميل مربع (9,00,000 كيلومتر مربع)، وهو عشر القارة الأفريقية كلها. ولكننا نعرف أنها لم تكن دائماً كذلك. تظهر لنا البحوث الأثرية والجيولوجية أن الصحراء الكبرى مرت بتغيرات مناخية عظمى منذ نهاية العصر الجليدي (حوالي 10,000ق.م). خلال هذه الفترة، كان المطر أوفر بكثير، ومساحات واسعة من الصحراء الحالية كانت سافانا. مع حوالي 4,200 ق.م، أدّت تغيرات في كمية المطر والأنماط الفصليّة إلى تصحر تدريجي للصحراء الكبرى إلى رقعة قاحلة. إن تحليل المواقع الأثرية، وعظام الحيوانات، وبقايا نباتية محفوظة، ينبّئنا عن عالم أكثر اخضراراً، حيث جرت أقدم محاولات استئناس الحيوانات والزراعة البدائية.


منظر عام لمجرى وادي ماثخندوس، مسّاك صطفت، ليبيا


لا يُعرف إلا القليل عن الناس الذين عاشوا في الصحراء الكبرى قبل آلاف السنين، ولكن – عبر الفنون الصخرية – يمكننا فهم من ربّما كانوا وما الصور التي كانت مهمة لهم. عبر الصحراء، تعرض الفنون الصخرية المنقوشة والمرسومة قصة أقدم للصحراء الكبرى: الحيوانات البرية التي عاشات هنا، وقطعان الماشية التي وفرت الغذاء والمجهود البدنيّ، والنشاطات اليومية والمعتقدات كلها معروضة في كهوفٍ، ومنحدرات، ووديان، وهضاب.

مسّاك صطفت هو أحد هذه الأماكن. يقع في الصحراء الكبرى، وهو أكبر هضبة تمتد من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي عبر إقليم فزّان الليبي، قرب حدود الجزائر والنيجر. كلتا الهضبتين تخترقها وديان (مجاري أنهار جافة) عديدة، تجري إلى الشرق، تحيط بها منحدرات مملوءة بعشرات آلاف اللوحات الفنية الصخرية، من ضمنها بعض أقدم النقوش في الصحراء الكبرى. بغناها برسومات للسافانا، تظهر الفنون الصخرية جواميس، أو تماسيح، أو نعامات، أو أفراس نهر، وكل ذلك يخبرنا بصحراء كبرى أكثر مطراً قبل آلاف السنين.

من الصعب تحديد دوافع الناس الذين صنعوا مثل هذه الصور. هناك نظريات كثيرة لتفسير لماذا صنع هؤلاء الناس فنوناً صخرية، وماهيّة الرسومات، وما الذي عنته الصور لتلك المجموعة. هناك جانب يختصّ باهتمام بحثي وهو تصوير الكائنات الأسطورية، صور هجينة (نصف إنسان ونصف حيوان)، وحيوانات مجسّمة (تمثيل حيوانات في صورة بشرية). هل كانت هذه صوراً دينية؟ تراثاً شعبياً ثقافياً؟ أو ببساطة صوراً محببة لمجموعة ما أو ثقافة ما؟


مشهد أماميّ لرسم القطيْن المتقاتليْن. وادي ماثخندوش، مسّاك صطفت، ليبيا


في عمق مسّاك صطفت، يقبع الموقع الذي جذب الباحثين لعقود: الصورة المعروفة بـ “القطّيْن المتقاتليْن”. هذا النقش المميز يظهر جسمين متجابهيْن، بذيلين طويلين، يقفان على عجيزتيهما، بسيقان وأذرع ممتدة جزئياً نحو بعضيهما، كأنهما يتقاتلان. النقوش موضوعة على بروز صخريّ، كأنهما ينظران عبر بقية الوادي، مع عدة نقوش أخرى تعمل كمعالم تقود إليهما. إنهما في وضعية مهيبة مشرفة على الوادي.

إن الجودة الفنيّة للنقوش استثنائية، مع أجسام محدّدة بعمق ومصقولة بعناية، ودوائر محفورة لتمثل العيون. لقد حُدِّدت المخالب أيضاً، ربما لتعزيز فكرة القتال. إن النوع المحدد للحيوان المصوّر هو محلّ جدل بين الباحثين. البعض يصفهما بأنهما قردان أو مزيج أسطوريّ من قردة ورجال. آذانهما الناتئة يمكن أيضاً تمييزها كأشكال تشبه القطط، مع أنها كانت على الأرجح تمثيلاً لكائنات أسطورية، باعتبار علوّها على كافة الصور الأخرى في هذه المنطقة. هناك خطّ مصقول يأتي من خصر كل من الشكليْن لينضمّ لأربع نعامات صغيرة، مصوّرة بينهما، والتي عادة ما تصاحب الفنون الصخرية في المنطقة.

توجد عدة نقوش أخرى عبر الوادي. في جزئه الأسفل إلى اليمين، هناك تصوير لجسم شبيه بالقط أو القرد، وإن كان في هذه الحالة مخطّطاً فقط. هناك جسم رباعي الأرجل، صغير غير متعرّف عليه، مصور على يسار رأسه. على الجانب الأيمن من الصخرة، يُعرض جسمٌ رابع، يكاد يكون مطابقاً لتلك التي في المشهد الرئيسي، لكن جزءاً من ذراعيه غير مصقول، كما لو أنه تُرِك قبل الانتهاء منه.

بجانب موقعها المبهر في المشهد، ومدى تعبيرها وتفسيرها المعقد، تحتفظ لوحة القطين المتقاتليْن بسرّ. في الجسم المصقول للشكل على اليسار، هناك شكل صغير دقيق لامرأة، منقوشٌ سطحياً. رُسم الشعر، والأصابع، والصدر بعناية، بالإضافة إلى رمز غير معروف في أسفل الجسم، والذي قد يكون ذا معنىً متعلّق بالخصوبة. إن الفرق في الأسلوب والتقنية قد يشير إلى أن المرأة أضيفت لاحقا للوحة، بالاستفادة من السطح المصقول، ولكن باحترام المشهد الرئيس.


الزوج الثاني من القطط المتقاتلة. وادي ماثيندوس، مسّاك صطفت، ليبيا


نموذج آخر للقطط المتقاتلة وُجد قريباً، بالرغم من أنه لم يصنع بذات العناية، ولم يكن في ذات المكان البارز. لكن الشبه مدهش، وقد نتساءل ما إذا كان الزوج الثاني من الكائنات هو نسخة من الزوج الأول، مما يعكس أهميته الرمزية في مخيال الناس الجمعيّ.

كما هو الحال غالباً مع الفن الصخريّ، فإن تفسير هذه الصور يبقى محلّ نقاش. أخذاً في الاعتبار العناية في نقش هذه الصور، وجودتها التقنية، وموضعها المهيمن على المشهد، يمكننا فهم أن هذه الصور لربما احتوت على معنىً عميق للناس الذين صنعوها قبل آلاف السنين، وربما جُعلت كمعلم رمزيّ وملموس للمسافرين والسكان المحليين على حدّ سواء. مع أن الغرض والمعنى الأصليّين قد ضاعا من زمن بعيد، فإن القوة التعبيرية للنقوش باقية، ما يسمح لنا باكتساب لمحة إلى عالم الناس الذين عاشوا في الصحراء الكبرى قبل آلاف السنين، عندما كانت سافانا خضراء ممتدّة.

شارك
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  • 1
  •  
    1
    Share

تعليقات فيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *